قصائدي تطرح همّاً إنسانيّاً مشتركاً مع القارئ

ننقل لكم في موقع كتاكيت موضوع (قصائدي تطرح همّاً إنسانيّاً مشتركاً مع القارئ )
نتمنى لكم الفائدة ونشكر المصدر الأصلي على النشر.

يلقي هذا الحوار الضوء على كثير من القضايا الشعرية العربية وما تميزت به من منجز جمالي عبر الأجيال، ويكتسب مصداقية خاصة كونه مع شاعر له تجربة لافتة في شعراء جيل السبعينات في مصر، وهو جيل مغامر ضخّ دماء جديدة في شرايين القصيدة

يمثل الشاعر صلاح اللقاني إحدى التجارب اللافتة في جيل شعراء السبعينات في مصر، فقد آثر البقاء بعيداً في مدينته، دمنهور، المتاخمة للإسكندرية، والتمرد على مركزية العاصمة المصرية، بكل ما تمثله من فرص للنشر والأضواء والانتشار. هو شاعر «ملتزم» ليس بالمعنى الحزبي أو الآيديولوجي وإنما عبر انحيازه إلى «الهمِّ العام»، وبحثه الدائم عن مساحة إنسانية مشتركة مع القارئ. تتسم قصيدته بثراء جمالي، وتوهج وموسيقى، وفرح طفولي باكتشاف الوجود. من دواوينه «النهر القديم»، و«ضل من غوى وسُرَّ من رأى»، و«ترتيب اللحظات السعيدة»، و«رنين الرمل»… هنا حوار معه حول هموم الشعر والكتابة.

* جاء عنوان أول ديوان لك «النهر القديم» متأثراً بدراستك للهندسة، خصوصاً هندسة الري، كيف ذلك؟

– أذكر أنني كنت في قاعة المحاضرات، آخر سنوات دراستي في كلية الهندسة، عندما سمعت الأستاذ الدكتور يقول إن الأنهار تنقسم إلى نوعين، أنهار جديدة يتغير مسارها ومصبها، وأنهار قديمة ثبت لها المجرى والمصب والدلتا. في تلك اللحظة لم أدرِ بنفسي إلا وأنا أفتح كراسة محاضراتي وأكتب ذلك العنوان المكون من كلمتين «النهر القديم». وهكذا وُلدت القصيدة، ومن ثم الديوان الأول الذي حمل عنوانها.

* كيف تنظر إلى «نهرك القديم» بعين الإصدار الأول؟

– لتجربة الإصدار الأول في حياة أي مبدع عموماً أهمية خاصة، وفرح طفولي يتجدد دائماً، فقد تعرّض ديواني هذا لمشكلات عدة. صدرت طبعته الأولى عام 1978 عن دار «النشر للجماهير» التي كان يشرف عليها الكاتب والناشر والمناضل السياسي فؤاد حجازي (1938 – 2019)، وذلك في طبعة متقشفة وفق ما كان يسمى آنذاك «طباعة الماستر». ونظراً للمشكلات السياسية التي كان يتعرّض لها الناشر من اعتقال وحبس فلم تتح فرصة مناسبة لتوزيع الديوان بصورة جيدة. وهذا ما جعلني أقدم على إعادة طبع الديوان بعد ما يقرب من 30 عاماً على صدور الطبعة الأولى.

* للوهلة الأولى تبدو العلاقة متباعدة، بل تكاد تكون متنافرة بين الهندسة بكل ما تعنيه من انضباط، والشعر بكل ما يعنيه من جموح وخيال، ولكن يبدو أنك استطعت رؤية وشائج خفية بينهما، كيف ترى الأمر؟

– خبرات الشاعر ومعارفه جميعها تصب في نهر قصيدته، فتكون القصيدة غنية بقدر ثراء تلك الخبرات والمعارف. والمبدع عموماً، والشاعر على وجه الخصوص، أشد الناس حرصاً على الحس البنائي والمعماري، وبقدر انضباط الشكل وعدم ترهله أو تشتته تكون الجودة والأصالة. وغالباً ما تتراوح قصيدتي بين الحلم والصحو، لكن حين يأخذني الحلم بعيداً، أستيقظ على قوة الواقع وقوة اللحظة ووطأتها التي تحتاج إلى يقظة شديدة لاصطياد تلك اللحظات وكتابتها شعرياً قبل أن تهرب سريعاً من الذاكرة.

* يصفك أحد النقاد بأنك «تضبط إيقاع شعرية الوجع على محبة الحياة»، إلى أي مدى تتفق مع هذا التوصيف؟

– كل تجربة إنسانية لها إيقاعها الفريد. ولا توجد تجربتان متطابقتان. لذلك ما زلنا نستمتع بشعر امرئ القيس. والشاعر الحقيقي هو الذي ينصت بعمق لإيقاع خبرته الحية حتى يتمكن من إيقاعها الفريد، فلا يكون صدى لتجارب الآخرين وخبراتهم.

* ثمة غنائية لافتة في دواوينك الأولى، مع اقتراب رهيف من عالم قصيدة التفعيلة، كيف تغيرت قصيدتك مؤخراً؟

– الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (1889 – 1976) يفرّق بين المعرفة والذات العارفة، وكل منهما ملقى في دوامة الزمان. لا شيء يبقى على حاله، فكلاهما يتغير ويتبدل بتأثيرات متبادلة بشكل لا يتوقف إلا عند الموت. وهكذا فإن التغيير في شكل الإبداع الشعري هو جزء من صيرورة الحياة وحركة الزمن، بل أكاد أقول وقوانين الطبيعة.

* تنتمي شعرياً إلى جيل شعراء السبعينات، إلى أي حد نجح هذا الجيل في التمرد على جيل الستينات الأشهر في الإبداع العربي؟

– أتحفظ تماماً على عملية «التجييل العقدي» للشعراء، التي يفترض أصحابها أنه يظهر كل عشر سنوات جيل شعري في مصر، وهذا غير صحيح سواء في مصر أو في أي مكان في العالم. والسبب وراء استسهال التصنيف تبعاً للأجيال الكسل النقدي وعجزه عن تتبع الظواهر الجمالية المختلفة، التي تحمل ملامح التجديد في الثقافة العربية. ومع ذلك أقول إن السبعينيين امتلكوا جرأة، وصلت أحياناً إلى درجة الاجتراء، على المغامرة الجمالية وتحدي السائد والمكرور.

* لكن بعض أبناء جيل التسعينات وما تلاه من أجيال شابة يتشدقون بمقولات مثل «ما بعد الحداثة»، وينظرون إلى جيلكم بوصفه تجربة تجاوزها الزمن واستنفدت أغراضها. كيف ترى ذلك؟

– تورط بعض زملائي في مثل تلك التجاوزات، وهي حال تتكرر مع الشباب من كل جيل. إنه إحساس وهمي بصراع الأجيال على غنيمة لا وجود لها. عظمة الإبداع أن يتحول ويرقى إلى مرتبة «الكلاسيكيات» فيظل مقروءاً على الدوام طال الزمان أو قصر.

* كنت عضواً بحزب «التجمع» اليساري منذ أن كان اسمه «منبر اليسار» ثم استقلت منه، ماذا عن ملابسات تلك الاستقالة؟

– انتمائي المبكر لحزب «التجمع» جاء من واقع إحساس مفرط بالمسؤولية الوطنية، وجاءت استقالتي بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011؛ لكي أنضم لحزب «التحالف الشعبي الاشتراكي» نظراً لارتفاع درجة الغليان السياسي وقتها. وعندما قُتلت الشاعرة والناشطة السياسية شيماء الصباغ في الذكرى الرابعة لثورة يناير، في 2015، في محاولة من بعض قيادات الحزب لدخول ميدان التحرير في اليوم نفسه الذي حدده تنظيم «الإخوان» لاقتحامه، أدركت أنني في مواجهة مراهقة سياسية، فاستقلت فوراً من الحزب وأعلنت أسباب استقالتي في بيان على صفحتي بموقع «فيسبوك».

* ألم تخش أن يخنق الانتماء «الآيديولوجي» حرية الشاعر داخلك؟

– أنا أفهم «الآيديولوجيا» بأنها المعتقد الفكري المغلق غير قابل للتساؤل أو المراجعة، وبهذا المعنى تخلو دواويني من الانتماءات الآيديولوجية تماماً. ولكن يجب أن نفرّق بين الانتماء الآيديولوجي وبين وجود «همٍّ» غالبٍ ومسيطرٍ على القصائد، فأنا إنسان قبل أن أكون شاعراً ولا أستطيع أن أفصل بين الهمِّ العام والهمِّ الخاص. ويبدو أن الهمِّ العام يتحول إلى شأن خاص في أعمالي التي تطرحه بقوة على مستويات سياسية واجتماعية وميتافيزيقية، والقارئ يبحث عن همِّ مشترك مع الشاعر وإلا انصرف عنه لو وجد الأخير يكتب همَّه الذاتي فقط.

* تمردت على سلطة العاصمة الثقافية وما تعنيه من فرص انتشار وأضواء وفضلت البقاء في مدينتك، دمنهور، بعيداً عن مغريات القاهرة. ما الأسباب التي دفعتك إلى هذا الاختيار الذي يراه آخرون صعباً؟

– ظروف عملي مهندساً مدنياً بوزارة الري عززت من ذلك الخيار، بالإضافة إلى أنني لا أمتلك مهارات المزاحمة، وقنص الفرص والتدافع بالمناكب. لكل هذه الأسباب، آثرت أن أكتفي بقصيدتي. والحق أن دمنهور تعني لي كثيراً في سياقات موازية، فقد تأثرت بنشأتي في حي «أبو عبد الله» بالمدينة، حيث نماذج إنسانية فريدة، وما يحتويه كذلك من حمامات عمومية للرجال والنساء، فضلاً عن المسجد الكبير و«مستوقد» لصنع وجبة الفول بكميات مهولة. وكانت لي غرفة فوق السطوح لم أتركها إلا حين تزوجت عام 1981، حيث شهدت تلك الغرفة بأثاثها البسيط لقاءاتي بأصدقاء العمر من المثقفين والكتاب، منهم المترجم الراحل السيد إمام، ونقاشاتنا التي تمتد في سهرات مطولة حتى الصباح، وسط جو من الصخب والحماس كان يصل إلى الجيران من البسطاء، الذين لا يفهمون تلك المصطلحات العويصة، التي كنا نتراشق بها.

* هل ترى أن تجربتك الإبداعية نالت ما تستحقه من اهتمام نقدي وإعلامي… أم أن ابتعادك عن القاهرة كان له ضريبة لا بد من دفعها؟

– لم تنل تجربتي الإبداعية إلا النزر اليسير من اهتمام شرفاء النقاد، عدا ذلك فهم صم بكم عمي فهم لا يبصرون. وحمداً لله على ذلك، فساحة النقد صارت كالربع الخالي. وحس النقد العارف غير موجود إلا عند قلة قليلة. وللأسف معظم النقاد لا يسعون وراء النص الجيد وإنما يقبعون خلف متاريسهم الأكاديمية في انتظار المبدع أن يذهب إليهم ويتملقهم حتى يكتبوا عنه.

* برأيك، هل يواجه الشعر العربي الآن محنة تتمثل في عدم حماس الناشرين له وهجرة أبنائه إلى الرواية بحثاً عن الأضواء؟

– المحنة الحقيقية هي محنة اللغة العربية، وتردي مستوى الناطقين بها إلى حد يمثل خطراً أمنياً، بوصف اللغة في النهاية قضية أمن قومي. هذا لا يهدد الشعر فقط بل كل فنون الإبداع القائمة على اللغة، ويضع الرواية والقصيدة والقصة في محنة.


موقع كتاكيت موقع منوع ننقل به أخبار ومعلومات مفيدة للمستخدم العربي. والمصدر الأصلي هو المعني بكل ما ورد في مقال قصائدي تطرح همّاً إنسانيّاً مشتركاً مع القارئ