هجرت الشعر إلى الرواية حتى لا «أُسْتَبعد من المشهد»

ننقل لكم في موقع كتاكيت موضوع (هجرت الشعر إلى الرواية حتى لا «أُسْتَبعد من المشهد» )
نتمنى لكم الفائدة ونشكر المصدر الأصلي على النشر.

بعد خمسة دواوين شعرية لاقت احتفاءً نقدياً، هجر صبحي موسى الشعر إلى الرواية ولم يعد إليه منذ ما يربو على العشر سنوات. من هذه الدواوين «يرفرف بجانبها وحده» و«قصائد الغرف المغلقة» و«في وداع المحبة». وفي الرواية صدرت له أعمال مهمة منها «حمامة بيضاء» و«أساطير رجل الثلاثاء» و«الموريسكي الأخير» و«صمت الكهنة».

هنا حوار معه حول أحدث أعماله «تحولات الثقافة في مصر»، وأسباب هجره الشعر إلى الرواية، ورؤيته للمشهد الأدبي.

* في كتابك الأحدث تستعرض مسيرة الثقافة المصرية منذ عهد محمد على وحتى ثورة 25 يناير… ما السبب الذي دعاك إلى الإبحار في هذا التاريخ الذي يمتد لنحو قرنين ولماذا لم تسع للتعبير عنه روائياً، بخاصة أن رواياتك تميل إلى الاستقصاء التاريخي؟

– من الصعب التعبير روائياً عن كثير من الأمور، في مقدمتها الأفكار والمقارنات والاستدلال والوصول إلى نتائج، والمطالبة بوضع خطط ورصد لملامح هذه الخطط، وهو ما سعيت إلى عمله في «تحولات الثقافة»، وذلك على نقيض ما قدمته في رواياتي ذات الطبيعة التاريخية مثل «صمت الكهنة، أساطير رجل الثلاثاء، الموريسكي الأخير، صلاة خاصة». الأعمال الإبداعية التاريخية تسمح باتخاذ موقف وتسريب بعض المعلومات، ووضع القارئ أمام حقيقة مخلوطة بحياة إنسانية حقيقية، مما يخلق في وجدانه نوعاً من التأثير، لكنها لا تستطيع أن تخاطب العقل بشكل واضح وصريح، فهذه مهمة الأعمال ذات الطبيعة الفكرية. وفي كتابي الأخير، لجأت لوضع رؤيتي عن الثقافة وما شهدته من تحولات في مصر الحديثة، وهي تحولات كانت وما زالت مرتبطة بخطط الدولة نفسها، نظراً لامتلاك الدولة المؤسسات الثقافية الكبرى القادرة على التغيير، لكن أزمة تلك الخطط أنها ارتبطت بالسلطة في بعض الفترات الزمنية، مما خلق لدينا ثقافة مشوهة أو منقوصة أو عرجاء.

* تؤكد في الكتاب أن تجربة فاروق حسنى الذي شغل منصب وزير الثقافة بالبلاد لفترة قياسية من 1988 حتى 2011 ركزت على الحجر دون البشر، من حيث بناء قصور ومتاحف لم يدخلها أحد سوى العاملين بها. لكن البعض قد يرى في هذا التوصيف اختزالاً مخلاً وشيئاً من التحامل وعدم الإنصاف؟

– بالتأكيد سيرى كل من استفادوا من تلك الفترة عكس ما أرى، فقد أنشأ هذا الوزير عشرات القصور والمتاحف، وأقام عشرات المؤتمرات والجوائز، إلا أن الأمور لا تقاس بالعدد، ولكن بوصول الخدمة إلى مستحقيها، وكانت النتيجة النهائية أن الثقافة حُبست داخل القصور والمتاحف، وتُرك الشارع للجماعات المتطرفة، مما يدلنا على أن الهدف الأساس لهذا الإنفاق لم يكن توصيل الثقافة إلى النجوع والقرى، أو ربط المثقف بالشارع، وخلق مثقف مستقل يمكن اعتباره مرجعية يعود إليها الناس حين تختلط عليهم الأمور، ولكن لتدجين المثقف، وجعله قطعة «أنتيكات» في أروقة هذه القصور والمتاحف.

* في المقابل، ترى أن مشروع د. ثروت عكاشة، مؤسس وزارة الثقافة في مصر، ارتكز على الذهاب إلى القرى والأطراف النائية بهدف تنوير وتثقيف الجماهير… لكن ماذا عن مطاردة واعتقال المثقفين في حقبة الستينات؟

– هذا جزء من خطيئة ارتباط خطة الثقافة بتوجهات ورغبات النظام وليس بما يفيد الدولة ومواطنيها بشكل عام، بغض النظر عمن يحكم وعن توجهاته ورغباته. كان النظام في هذا التوقيت على خلاف، إن لم يكن عداءً مع الشيوعيين، وكان كثير من المثقفين ينتمون إلى الفكر الشيوعي، ومن ثم دخل أغلبهم السجون، لكن بعيداً عن الدفاع عن نظام بعينه، من الإنصاف القول إن من دخلوا السجن لم تُقطع أرزاقهم، وبعضهم كان يدخل السجن ويخرج منه إلى رئاسة تحرير مؤسسة قومية مثل «الأخبار». وفي ذلك العصر، انتقلت الثقافة بقوة من العاصمة إلى النجوع والقرى، وتم البحث عن الموهوبين وتقديمهم، عشرات الفرق الفنية ظهرت وأتت من هذه القرى، ومئات المثقفين ذهبوا وخالطوا أبناء النجوع والأرياف لتعليمهم وتثقيفهم وتنويرهم.

* تستنكر تهميش المثقفين حتى يتركوا الساحة خاوية أمام جماعات التشدد الديني في حقب سابقة من التاريخ المصري، ما السبب في ذلك وما المطلوب حتى لا يتكرر؟

– المطلوب أن نتعامل مع الثقافة بمعناها العام كما يراها علماء الاجتماع، فالثقافة ليست رعاية الآداب والفنون، فهذا دور يمكن أن تقوم به مؤسسة مثل «المجلس الأعلى للثقافة»، وكان يقوم به في بداية الخمسينات بالفعل، قبيل إنشاء وزارة الثقافة والإرشاد القومي. فعلماء الاجتماع يرون الثقافة الكل الجامع، أي أنها كل شيء في المجتمع، وبالتحديد كل شيء يخص الفكر والوعي والسلوك، وهذه الجوانب يصعب أن تنهض بها وزارة الثقافة وحدها، ولابد من وجود ما سمّيته بـ«المجموعة الثقافية»، والمكونة من وزارات الثقافة والتعليم والإعلام والجامعات والأوقاف والأزهر والكنيسة، أي كل المؤسسات التي تسهم في بناء وعي وفكر المواطن.

* روايتك الأخيرة «نادي المحبين» تنطوى على تجربة سردية وجمالية شديدة الخصوصية، لكنها لم تأخذ حقها نقدياً أو إعلامياً… ما السبب؟

– يمكن ربط ذلك بما حاولت الحديث عنه أو مواجهته في «تحولات الثقافة»، فواحد من التحولات التي نعيشها الآن هو أننا نعيش في عصر الجماهير الغفيرة، أي أن الجمهور هو الذي يقود وليس النخب، وهذا يعني انتشار الشعبوية وربما الغوغائية في كل مناحي الحياة ومختلف الفنون، نظراً لأن الجمهور هو الذي يحدد ما يُكتب وما لا يُكتب. ومن ثم سادت اختيارات مثل أغاني المهرجانات المبتذلة وروايات «البيست سيلر» أو الأكثر مبيعاً التي اجتاحت كل شيء.

* هل تسبب طبيعة موضوعات رواياتك بجرأتها وعدم تقليديتها أزمات أو خلافات بينك وبين الناشرين؟

– أكاد أكون بلا ناشر محدد، نظراً لأن كل عمل لدي لا أعرف من الذي سيقبل بنشره، وبات من الطبيعي أن يرفضني الناشرون، وصرت أراهن على دور النشر الصغيرة التي يمكنها أن تقبل بي أكثر من دور النشر الكبيرة التي تبحث عن الأكثر مبيعاً بصرف النظر عن مضمون العمل وجديته.

* للتاريخ حضور طاغ في أعمالك… هل هو مجرد خلفية لفكرة راهنة أم أنك تطمح فعلاً لإعادة تفسير الماضي؟

– أنا خريج علم اجتماع، ولدى محبة شديدة لعلم التاريخ والأنثربولوجيا، وربما هذا الثالوث هو ما يسيطر على مخيلتي طيلة الوقت، فالقضايا المجتمعية الراهنة هي ما يثير الفكرة لدي، ما يستدعي محاولة رؤية جذورها تاريخياً، لمعرفة كيف نشأت وكيف وصلت لما هي عليه الآن. ومن ثم فالتاريخ لدي بمثابة العقل الباطن للجماعة البشرية، ولمعرفة حقيقة أي أزمة فلابد من التفتيش في العقل الباطن. وقد ساعدتني الأنثربولوجيا على نسج أساطيري الخاصة في مجمل أعمالي.

* حين يُسأل الشعراء عن سبب تحولهم لكتابة الرواية يقدمون عادة إجابات مراوغة لكنك تمتلك شجاعة الاعتراف بأنك فعلت ذلك «حتى لا تُستبعد من المشهد»، كيف ترى إذن موقف الشعراء الذين رفضوا غواية الرواية بأضوائها وجوائزها وصخبها؟

– لا أرى أن هناك شرفاً كبيراً في الالتزام بالشعر أو بفن محدد، هذا من قبيل الأفكار البدائية، وضد ما بعد الحداثة ورؤيتها عن التعدد، كما أنه لا يوجد عقد بين أي كاتب أو شاعر وبين الناس على أن يكتب فناً محدداً. وفي حقيقة الأمر أن الشعر فن صعب، ولكل شاعر طرحه الخاص، وهذا الطرح غالباً ما يقدمه في عمل أو اثنين، يكونان فارقين ويخصان فكرته الجديدة، وما يتلوهما ليس أكثر من تنويعات أو اجترار، وربما يكون مجرد تمهيد لمجيء فكرته. الذين يعون هذه الحقيقة يدركون أنهم قدموا طرحهم ورؤيتهم من خلال هذين العملين، وعليهم، إذا كان لديهم ما يشغلهم، أن يطرقوا أبواباً وفنوناً أخرى، أو أن يتوقفوا في هدوء، فكتابة الشعر ليست وظيفة، ولا شرف يستدعي ضرورة الكتابة فيها إذا قدم الشاعر طرحه.

الجوائز همشت دور الناقد وعممت الشعبوية والأدب الجاهز وخلقت صائدي جوائز أكثر مما خلقت من مبدعين

*ألهذا السبب هجرت الشعر نهائياً ولم تعد إليه طوال ما يربو على 10 سنوات؟

– هجرت الشعر لأنني تعبت من الاستبعاد، فالشعراء كانوا يستبعدونني من قوائمهم ويعدونني روائياً، والروائيون يستبعدونني من قوائمهم ويعدونني شاعراً، وكان لابد أن أثبّت قدمي بشكل راسخ في مكان محدد كي أعلن عن نفسي بشكل لا لبس فيه، والآن أقول لكِ إنه لا يوجد عقد بيني وبين أحد على كتابة نوع محدد من الفن، فضلاً عن شعوري بأنني قدمت طرحي الخاص بكتابة الشعر، وأن أي كتابة جديدة كانت ستكون تنويعاً على ما سبق.

* كيف انعكست خلفيتك كشاعر على ما تنجزه من تجارب روائية؟

– ساعدني الشعر على نعومة اللغة وإطلاق الخيال، فأنا لا أفكر وأنا أكتب، ولكنني أترك نفسي على الورق، وهذه فضيلة شعرية وليست روائية.

* أخيراً، كيف ترى المشهد الأدبي عربياً بشكل عام؟

– أراه مشهداً ثرياً للغاية، لكن المشكلة أن الانتخاب لا يكون لصالح الأقوى أو الأفضل، ولكن لصالح الشعبوي والأضعف، أو ما يشابه أفكار الجماهير ولا يثيرها للتفكير. المشكلة أيضاً أن الجوائز الأدبية لم تزد المشهد الإبداعي في العالم العربي إلا إحباطاً وصراعاً وربما قتلاً، فالكل أصبح يفكر في الشهرة والمال، وليس في القيمة الأدبية. للأسف الجوائز همشت دور الناقد، وعممت الشعبوية والأدب الجاهز، وخلقت صائدي جوائز أكثر مما خلقت من مبدعين.


موقع كتاكيت موقع منوع ننقل به أخبار ومعلومات مفيدة للمستخدم العربي. والمصدر الأصلي هو المعني بكل ما ورد في مقال هجرت الشعر إلى الرواية حتى لا «أُسْتَبعد من المشهد»